tgoop.com/ibntaymiyyah728/5559
Last Update:
قال ابن القيم رحمه الله:
الأحكام ثلاثة:
١. «حكم شرعي ديني [= يعني الأوامر والنواهي]»، فهذا حقه أن يتلقى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة، بل الانقياد المحض.
وهذا تسليم العبودية المحضة، فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد، ولا يرى إلى خلافه سبيلا البتة، وإنما هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول.
فإذا تلقى بهذا التسليم والمسالمة إقرارا وتصديقا بقي هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إرادة وتنفيذا وعملا، فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه، كما لم تكن له شبهة تعارض إيمانه به وإقراره.
وهذا حقيقة القلب السليم الذي سلم من شبهة تعارض الحق، وشهوة تعارض الأمر، فلا استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتبعون الشهوات، ولا خاض في الباطل خوض الذين يتبعون الشبهات، بل اندرج خلاقه تحت الأمر، واضمحل خوضه في معرفته بالحق؛ فاطمأن إلى الله معرفة به، ومحبة له، وعلما بأمره، وإرادة لمرضاته، فهذا حق الحكم الديني.
٢. الحكم الثاني: الحكم الكوني القدري الذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة، والذي حكم به يسخطه ويبغضه ويذم عليه. فهذا حقه أن ينازع ويدافع بكل ممكن ولا يسالم البتة، بل ينازع بالحكم الكوني أيضا، فينازع حكم الحق بالحق للحق، ويدافع به وله،
كما قال شيخ العارفين في وقته عبد القادر الجيلي: «الناس إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي فيه روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق. والعارف من يكون منازعا للقدر، لا واقفا مع القدر» انتهى.
فإن ضاق ذرعك عن هذا الكلام وفهمه فتأمل قول عمر بن الخطاب، وقد عوتب على فراره من الطاعون، فقيل له: أتفر من قدر الله؟ فقال: «نفر من قدر الله إلى قدر الله».
ثم كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاء له في هذا العالم إلا به، ولا تتم له مصلحة إلا بموجبه؛ فإنه إذا جاءه قدر من الجوع والعطش والبرد نازعه، وترك الانقياد له ومسالمته، ودفع بقدر آخر من الأكل والشرب واللباس، فقد دفع قدر الله بقدره.
وهكذا إذا وقع الحريق في داره فهو بقدر الله، فما باله لا يستسلم له ويسالمه ويتلماه بالإذعان؟ بل ينازعه ويدافعه بالماء والتراب وغيره حتى يطفئ قدر الله بقدر الله، وما خرج في ذلك عن قدر الله.
وهكذا إذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر، ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه الأدوية الدافعة للمرض.
فحق هذا الحكم الكوني أن يحرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه، فإن غلبه وقهره حرص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب التي نصبها الله لذلك، فيكون قد دفع القدر بالقدر، ونازع الحكم بالحكم. وبهذا أمر، بل هذا حقيقة الشرع والقدر.
ومن لم يستبصر في هذه المسألة ويعطها حقها لزمه التعطيل للقدر أو الشرع، شاء أم أبى.
فما للعبد ينازع أقدار الرب تعالى بأقداره في حظوظه وأسباب معاشه ومصالحه الدنيوية، ولا ينازع أقداره بأقداره في حق مولاه وأوامره ودينه؟ وهل هذا إلا خروج عن العبودية ونقص في العلم بالله وصفاته وأحكامه؟
ولو أن عدوا للإسلام قصده لكان هذا بقدر الله، ويجب على كل مسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه الله -وهو الجهاد باليد أو المال أو القلب- دفعا لقدر الله بقدره، فما للاستسلام والمسالمة هنا مدخل في العبودية؛
اللهم إلا إذا بذل العبد جهده في المدافعة والمنازعة، وخرج الأمر عن يده،
٣. فحينئذ يبقى من أهل الحكم الثالث: وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري على العبد بغير اختياره، ولا طاقة له بدفعه، ولا حيلة له في منازعته. فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة وترك المخاصمة،
وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل، وكمن انكسر به المركب في لجة البحر، وعجز عن السباحة، وعن سبب يدنيه من النجاة؛ فههنا يحسن الاستسلام والمسالمة.
مع أن عليه في هذا الحكم عبوديات أخر سوى التسليم والمسالمة، وهي أن يشهد عزة الحاكم سبحانه في حكمه، وعدله في قضائه، وحكمته في جريانه عليه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الكتاب الأول سبق بذلك قبل برء الخليقة، فقد جف القلم بما يلقاه كل عبد، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.
ويشهد أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم الحكيم ﷻ وصفة الحكمة، وأن القدر قد أصاب مواقعه وحل في المحل الذي ينبغي أن يحل فيه، إذ هو موجب الحكمة البالغة والعلم المحيط والعزة التامة، لم يخطئ مواقع الحكمة، ولم يتعد منازله التي ينبغي له أن ينزل بها؛ وأن ذلك أوجبه عدل الله وحكمته وعزته وعلمه وملكه العادل، فهو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العلى.
فله عليه أكمل حمد وأتمه، كما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره.
- طريق الهجرتين ودار السعادتين (١ / ٧٤ - ٧٨)
BY الفقير إلى رب البريات
Share with your friend now:
tgoop.com/ibntaymiyyah728/5559