اعلم #يا_بني أن من أظهر المواقف التي يتميز فيها كامل العقل من غيره: مواقف القول الجالب للتهمة المستجلِب الوقيعة التي تُلقي عليه بالحُجُب الكثيفة المانعة من تأمُّلِه، وإن كان حقًّا في نفسه أو له حظ من النظر، ما لم تدعُ إليه ضرورة صيانة دين أو عرض أو إقامة حق، أو توجَّه عليك الجواب في محلِّه.

أما المبادرة إلى القول في مجالس المماقِتين، وعند من يوَدُّ أن يصيب منك ما يصدِّق به التهمة عليك، ونزع لباس الصمت عن عِرضك في مزدَحم الغوغاء -كهذه المنصات- فهو سبيل من أصيب في عقله.

فإن حمَلَتْكَ على مخالفة ما ذكرته لك ملاحظة نظر فلان أو رضا فلان؛ فقد جمعتَ القِلَّتيْن؛ قلة العقل وقلة الديانة، وإن كان ظاهر قولك رعاية العقل وتعظيم الديانة، وأنت أجدر أن لا تنتفع بوصية.

تحذير من خطأ شائع!
تنبيه على قول ضعيف!

ما هو الخطأ الشائع؟ هو قول الجمهور في المسألة.
ما هو القول الضعيف؟ هو اتفاق الأئمة الأربعة، والمنقول عن السلف.

ما بضاعة صاحب التنبيه؟ قرأ رسالة لأحد شيوخ العصر، أو استمع إلى صوتية له ذكر فيها قوله وانتصر له، ثم سبق إلى منابر الكلام ومواقع البث، ولم يكلِّف نفسه بالبحث والنظر في اتفاق السلف واختلافهم.

اللهم اكْفِهِ وأمثاله بالسؤال عن الجدال، وأغْنِهِم بالبحث والنظر عن المسارعة إلى القول.

النقص #يا_بني ليس في امتناعك عن الخوض في الذي لا تحسنه، ولا في البراءة من دعوى إتقان ما لا تتقنه، ولا في عدم الوعد بالذي لا تطيق الوفاء به.

النقص كل النقص في الإقدام بغير دراية، والولاية بغير رعاية، والوعد بغير ظن الوفاء، ثم لا يزال لسانك رطبًا بالاعتذار، ووجهك ملازم للاستتار، فإنك حينئذ من أنقص الناقصين.

ما رأيت في أشباه طلاب العلم أثقل على قلبي من رجل يريد إلزامك بما في سبق إلى ذهنه وما وقر في قلبه، لماذا؟ لأنه درس هذه المسائل في رسالته للماجستير أو الدكتوراه، فهو الخبير بها الذي إليه المصير، وهو الحاكم فيها الذي يرتفع بحكمه الخلاف!

وأنا طويلب العلم الضعيف الذي غمر جهلُه سويحلَ علمه، والتهم تقصيرُه وكسلُه اجتهادَه إلا بقايا يعتاش بها بين طلاب العلم، أعلم من خبايا هذه الرسائل ما يجعلني أحترز من الأخذ بما فيها إلا قليلًا، ولا أطمئن إلى نقلٍ فيها إلا بعد الرجوع إليه في مظانه، وآخر ما وقفت عليه في بعضها: افتراع أقوال في المسائل ونسبتها إلى الأئمة والإحالة إلى كتب أصحابهم، وهي -والله- لم تُذكَر ولعلها لم تخطر لهم ببال. وكلٌّ يغترف من بركة أوهام سابقه، حتى أن بعضهم أنشأ رسالته من تلخيص رسالتين سابقتين في الموضوع بإرشاد من زميل سابق!

والذي رأيته في كثير من هؤلاء أنه لا يتطلَّب المراجعة، ولا يلتمس التصحيح، ولا يتسع صدره للنقد إلا لمجاوزة لجنة المناقشة، فإن جاوزها قذف بكراريسه إلى أقرب ناشر من غير تنقيح ولا تصحيح ولا تهذيب، ثم لم يقنع بما حصَّله من رُتب الدنيا ووظائفها، بل يريد أن تكون له كلمة الفصل في العلم بما جمعه في تلك الكراريس.

والصادق يتميز بأنه لا ينظر إلى جَمْعِه ذاك إلا على أنه بذر يطلب إصلاحه وسَقْيَه ورعايته ودفع الآفات عنه بما يجده عند غيره، حتى إذا اكتمل زرعه، وصلحت ثماره؛ قدَّمها للناس معتذرًا عن تقصيره، ملتمِسًا مزيد إصلاح وتقويم.

لتُّ الشباب وأنصاف العقلاء وأرباع الفقهاء وعجْنُهم في دقائق مسائل التكفير والسياسة الشرعية هل سيُنتج لنا تحقيقًا جديدًا أو يُثبِّت حقًّا مضى عليه من سبق؟ لا، بل سينتج لنا أسماءَ فِرَق جديدة، أو يجدِّد ذكر أسماء فِرَق قديمة.

فإذا جلست #يا_بني إلى قوم فخاضوا بجهل وتهوُّر واحتكامٍ إلى أوهام العصريين في مسائل: تكفير أهل البدع، والحكم بغير ما أنزل الله، والعذر بالجهل، ونحوها؛ فقُم ولا تقعد معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، ولا تفاتح كل أحد في هذه المسائل إلا إذا أردت أن تعود إلى بيتك وقُد أُلحِق اسمك بقوائم المرجئة أو الخوارج أو غيرهم، أو اشْتُقَّ من اسمك اسم فرقة جديدة يتحدث هَوامُّ العلم عنها عامًا أو عامين حتى تُنشأ لهم فرقة غيرها!

‏أخي ‎#طالب_العلم، أرى تواضعك يحملك على قبول تجربة أخيك القاصرة، وتأمُّلَه القصير، لهذا أقول لك:

إذا وجدت من نفسك اندفاعًا شديدًا أو تعلُّقًا بالغًا ببابٍ من العلم، أو مسألة منه، أو مذهبٍ فيه؛ فخُذْ هذا الاندفاع ومعه التعلُّق في طريق إتقان هذا الباب، والإفاضة في بحث هذه المسألة، والتوسُع في تحرير هذا المذهب، وإلا أخذاكَ هما في طريق كثرة الحديث عن هذا الباب أو تلك المسألة أو ذاك المذهب، حديثًا يسبق الفهم، وإلزامًا يسبق التحرير، وامتحانًا يسبق التحقيق، فتكون -أجارك الله ورفع قدرك- أحمق في مسلاخ طالب علم.

وصبَّحك الله بالخير أولًا وآخرًا. 🌹

‏جاءت هذه الآية الحاصرة لمصارف الزكاة بعد ماذا؟ بعد ذكر حال المنافقين مع الصدقات؛من التطلُّع إلى الإصابة منها، واللمز عند الحرمان منها، والإشرافِ على مواطن الذل، وانقطاع الرجاء إلى الله والرغبة إليه.

وهذا السياق والاتصال باعث لمن وجد في قلبه بقية من إيمان بالله واليوم الآخر على أن يحترز من مقاربة أحوال أهل النفاق، فلا يتصرُّف بالقول أو الفعل في مصارفها، ولا يُلحِق بها ما ليس منها، أو يُدخل فيها من ليس فيها.

وتفكَّروا كم حُرم فقير أو مسكين من حظِّه في الزكاة بسبب نفخ بعض المتفقِّهة في مصرف (في سبيل الله)، حتى شمل صورًا بطن الجائع وجسد العاري أولى منها في شرع ربنا تبارك وتعالى، وحتى رأينا ذا الفقر يتعفَّف وينكر فقرَه، وذا الغنى يُشرف ويدل على نفسه ويتطلَّع.

‏قاعدة في الآيات المتعلقة بالكونيات ونحوها:

قال العلامة مصطفى الغلاييني -رحمه الله-:

"ما سرَدَه الله في هذا الشأن في سُوَرٍ مختلفة -على سبيل العِبْرة والموعظة- من حكمته المُعجِزَةِ؛ لأنه يعلم أن الأفهامَ تختلف، وآراءَ علماء الكون تتضاربُ، فلم يذكر آياتِ الخَلْقِ بأسلوبٍ قاطعٍ؛ كَيْلا يتعرَّضَ كلامُه سبحانه لِطَغْيِ الملحدين، والزِّرَايَةِ عليه مِنْ جَهَلَةِ المتعلمين؛ ولئلا يكونَ مَثَارًا للشبهات والمطاعن كلما انتقضَ رأيٌ وحَلَّ مكانه رأيٌ آخر". (الدين والعلم، ص٥٦)

ثم قال (ص٥٧): 👆

‏"ألا تراهم يقولون: أرض الشام، والشام جمع شامة ... وقد ذهب بعضهم -في تسميته- إلى أنه سُمِّي شامًا بشاماتٍ له؛ يعني اختلاف أراضيه في ألوان ترابها. وقد علمتَ أن بعض تُربه أبيض، وبعضها أسود، وبعضها أحمر، وبعضها أصفر، وبعضها أكدر ... فصحَّ أن إطلاق الشامة هاهنا لكونه نُكتة في الأرض، إذ الشام بمجموعه لو كان لونًا واحدًا؛ لكان كالنكتة الخفيِّة في أديم الأرض". (كشف الحال للصفدي، ص١٣٦)

وقد مرَّ معكم قول ياقوت في (معجم البلدان، ٣١٢/٣): "الشام: جمع شامة، سُمِّيَت بذلك لكثرة قُراها، وتداني بعضها من بعض، فشُبِّهَتْ بالشامات".

‏قال الإمام النحوي الشافعي أبو محمد ابن برِّي -رحمه الله- في حواشيه على صحاح الجوهري:

"المرجئة: صنف من المسلمين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، كأنهم أرجئوا العملَ، أي: أخَّرُوه؛ لأنهم يرون أنهم لو لم يُصَلُّوا ولم يصوموا لنجَّاهم إيمانهم".

(التنبيه والإيضاح، ١/ ١٧-١٨)

‏لا أميل إلى إشغال القارئ بقصصي، لكني كلما أبصرت هذا الكتاب، أو زرت (مكتبة الإكليل)، تذكرت قصتي في تحصيله، وكأنها تُلِحُّ علي في حكايتها لكم، فقد تجلت فيها ألطاف رب العالمين، وبدائع حسن تدبيره.

تشوَّقت أول صدوره قبل أعوام لتحصيل نسخة منه، ولم أظفر بخبر عنه بعد سؤال متكرر في مكتبات جدة، وبينا أنا نائم بعد سهر إلى الفجر في بيت سيدي الوالد -سلمه الله- في الطائف، إذ انتبهت فزعًا لما يشبه صوت ندائه لي، وكان وقتها يعاني تعبًا عارضًا، فصعدت إليه كالمجنون ودخلت عليه، فنظر إلي نظر متعجِّب من دخولي فزعًا بغير استئذان، سألته: هل ناديتني؟ قال: لا، هل أنت بخير؟ الحمد لله، تأمرني بشيء؟ سلامتك.

عدت إلى غرفتني لعلي أواصل نومي، لكن النوم استعار جناحًا من الفزع وآخر من القلق وطار بهما، فخرجت من البيت للمرور على المكتبات -ترياق التوتر الذي أدمنته زمنًا- إلى أن يستيقظ أهل البيت كلهم.

سرت بسيارتي حتى قطع حبل أفكاري وقوفي أمام (مكتبة الإكليل) فدخلتها، ولم تطل مصافحة بصري الأولى لرفوفها حتى رأيت بعيني الكتابَ أمامي وبخيالي ابتسامةً بين عنوانه واسم مؤلفه رحمه الله، أخذته وأسرعت إلى البائع فتبسم، وكأنه يترجم لي الابتسامة التي رأيتها بخيالي قبل، ثم زاد الترجمة بيانًا بقوله: هل تعلم أن الكتاب وصلنا بطريق الخطأ؟ طلبنا طلبية فجاء معها، وقد أخبرنا المصدر فقال: الأمر إليكم، إما أن تبيعوه إذا جاء طالب له وترسلوا لي ثمنه أو تردوه إلي، ولم نحسم أمر ردِّه إليه حتى جئتنا أنت مع بداية اليوم لتأخذه!

فسبحان الذي لا يحيط بلُطفه الخفي خيال، ولا يصف فضله العظيم مقال.

خطر لي وأنا أسيِّر طرْفي في أعلام نساء العرب والمسلمين اللاتي جمع أخبارهن البحَّاثة الأديب عمر رضا كحَّالة -رحمه الله- في خمس مجلدات أن أحصي أكثر الأسماء تكرارًا، فكانت:

فاطمة (٢٥٥ مرة)
زينب (١١٣ مرة)
عائشة (١٠٦ مرات)
خديجة (٦٧ مرة)
والباقي مما تكرر دون الخمسين مرة؛ كأسماء، وهند، وصفية.

رضي الله عن بنات نبيِّنا ﷺ، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن أمهاتنا وأخواتنا وأزواجنا وبناتنا ونساء المسلمين أجمعين.

‏هذا الكلام هو من رسالة عبدالغفار البسطويسي إلى طه حسين (أوراق طه حسين، ٢١١/٢)، وأظنكم تُقسمون كما أقسَمَ أنكم رأيتم طلابَ علم يلتهمون الكتب التهامًا، ويسردون المطولات سردًا، لكنهم لا يجدون أثرًا في أنفسهم، ولا يجده فيهم ولا منهم غيرهم، وهذا وارد بقوة مع غياب المقاصد العالية للعمل، والمعالم الواضحة في التلقي، والأصول الجامعة للعلم.

‏أخي المطلِّق، عقد الزوجية السابق لم يكن باب الجنة الذي أُغلِق دونك بالطلاق حتى تقول بلسان الحال: لم يبقَ غير النار قرار، فلأحْتَنِكَنَّ أولادها ما بقيت، ولآمرَنَّهم بالعقوق، ولأُريَنَّهم مني ما لا ينتظرونه من عدو، ولأُلجئنَّهم إلى سوء الخلق، ولأضطرنَّهم إلى طريق التكفُّف والشكاية، واعلم أنه لا تقوى لمُستمرئ الظلم، ولا رجولة لمُلازم النقص.

‏إذا لم تعلم ‎#يا_بني أن الله قد يحرِم ليَصطفِي، وقد يُعطي ليُطغي؛ فما علمتَ ولا فهمتَ!

آمنتُ بما حكى الله تعالى من أهوال الآخرة وأحوال المنعَّمين والمعذَّبين، وأن أمرها لا يقاس على أمر الدنيا لا بالمقال ولا بالخيال، وإلا لظننتُ أن بعض من لم يغيرِّه البلاء، ولم تخلِّصه المِحَن للحق، ولم ينقله خِذلان أصحاب السوء إلى خير منهم، لو أنه دخَل جهنَّم ومُكِّن فيها من جهاز يكتب فيه وينشر؛ لواصَل ذم خصومه بالباطل، ورمي من لا يوافق طريقته بالبهتان، غير مُبالٍ بإحاطة العذاب. لكن الله قضى بأن يبلغ الشعور بما قضاه في الآخرة للمحسن وللمسيء غاية لا ندركها، وأثرًا لا نتخيَّله، والعقل والفضل والتقوى مواهب وعطايا منه تبارك وتعالى، يهبها من يشاء من خلقه فضلًا منه، ويمنعها من يشاء عدلًا منه.

سألتني #يا_بني عن أولئك الذين كانوا يشرفون على أسوار البيوت، ويتعلقون بنوافذها، ويدورون بأبوابها ليبصروا عورات أهلها، أين ذهبوا، ومن جاء بعدهم؟

وأقول: أدركتهم سنة التطور، واجتالتهم شياطين التنوير، فصاروا أصحاب حسابات يغرِّدون كل ساعة عن النقاب، وكأن أجسادهم ثقلت عن صعود الأسوار، والتعلُّق بالنوافذ، والدوران بالأبواب، أو شقَّ عليهم استيعاب الموجود مع ازدياد البيوت والسكان، فأرادوا أن يبرز لهم بغير جهد!

قاعدة:

المؤمنون كنفسٍ واحدةٍ، فمتى عابَ المؤمنُ المؤمنَ؛ فكأنما عابَ نفسَه.

(الكشاف للزمخشري، ٣٦٩/٤)

قاعدة:

"الكامل هو الذي يشتغل بما يُجِلُّه، لا بما يُسقطه في أوديةِ الهَوان ويُذِلُّه".

(حلية البشر للبيطار، ٤/١)

‏أخي ‎#طالب_العلم، افتح الشاملة إن شئت، ثم اختر قسم التراجم والطبقات، واكتب في كلمة البحث جملة: "بما يعنيه"، ثم جرِّب إحصاء النتائج التي يُذكَر فيها من مناقب المترجَم أنه "كان مشتغلًا بما يعنيه"، ولا أظنك ستحصيها لكثرتها، لكنك ستدرك أن الاشتغال بما يعني كان قاعدة ثابتة عند أهل الفضل، وشعارًا ظاهرًا لأهل الكمال.

السؤال: هل ستعود إلى الاشتغال بما لا يعنيك من امتحان أهل القبور، والتفتيش في سرائر الأحياء، واتباع عورات المؤمنين، والبحث في خفي شؤون الدول وغامض السياسات، ومسابقة أهل السفاسف إلى سفاسفهم، والزيادة على أهل اللهو في لهوهم؟!