MENOATHGAFI Telegram 2619
📝 الإعلام وسلوك القطيع: فن قيادة الخِراف إلى المذبح

د.محمد عمارة تقي الدين

"إن معرفة فن التأثير على مُخيلة الجماهير تعني معرفة فن التحكم بها"، هكذا يصف المفكر الفرنسي جوستاف لوبون في مؤلفه الرائع (سيكولوجية الجماهير) فن إدارة القطيع عبر التوجه بالحديث إلى عاطفتها وقلبها دون عقلها، وهو الأمر الذي تعاظم تأثيره في أيامنا هذه في ظل الانتشار الواسع والتطور الهائل في وسائل الإعلام.

إذ تكمن خطورة تلك الوسائل الإعلامية في مقدرتها على حشد جموع كبيرة من الجماهير وراء فكرة ما وتأييدها بشكل مطلق مهما كانت سلبيتها، ومن ثم دفعهم للتصرف من دون تفكير لإنفاذ هذه الفكرة في عالم الواقع بغض النظر عن العواقب من ورائها، وكأن ما تقوم به هذه الوسائل الإعلامية هو من قبيل عمليات التنويم المغناطيسي، ولكن خطورتها أنها لا تتم بشكل فردي وإنما في شكل تنويم جماعي.

ومن ثم يتشكل العقل الجمعي بمفهومه السلبي الذي يتسم بالانصياع الأعمى والانقياد اللإرادي والانسياق اللاواعي خلف الأيديولوجيات المختلفة بتجلياتها الدينية أو الطائفية أو القومية، فهي إذن عملية تغييب تامة للوعي الإنساني، وتعد جماعات العنف مثالاً صارخاً على هذا السلوك، إذ يخلع الفرد المنتمي لها عقله على عتبات الجماعة لتتلبسه حالة متفاقمة من الخضوع والإذعان التام.

وفي هذا الشأن يشرح إميل دوركايم في نظريته "قهر العقل الجمعي" كيف يقهر هذا العقل الجمعي الإنسان ويُخضعه له بشكل مطلق فيصبح واحدًا من القطيع، فهي إذن قوة آمرة أو سلطة قاهرة، تجبر الفرد على الانصياع التام لها والتقليد الأعمى لسلوكها، أو ما يُسمى بالجبرية الاجتماعية وفقاً لدوركايم.
وعليه تنشأ مجموعة من الخصائص التي تُميز الجماهير التي تسير في شكل القطيع وهي: القابلية للتحريض المتسرع والعنيف ضد العدو الذي اختلقه لهم قائد القطيع، السذاجة وسرعة تصديق ما يطرحه قائد القطيع من فكر دون تمريره على العقل، اللجوء للعنف وتبني الحلول الجذرية، المبالغة في العواطف والدفع بها إلى حدها الأقصى ومن ثم خفوت التفكير العقلاني وصولاً لدرجة الانطفاء التام.

وفي مجتمع القطيع، وكما يذهب البعض، يفقد الفرد فرديته بشكل مطلق ويذوب في المجموع ويتماهى معه بشكل تام فيبدو شخصاً آخر ذو سمات شخصية وسلوكية متناقضة تماماً مع سماته الحقيقية، فهو في الواقع وبعيداً عن القطيع نجده يفكر بعقلانية ومنضبط المشاعر والسلوك، أما في الحشد وداخل القطيع فهو ينزع نحو الانفعالية والتطرف في السلوك والمشاعر لأقصى درجة متخيلة، فها هو عقله وقد أقاله تماماً، بل قتله بدم بارد وذهب به إلى ثلاجة حفظ الموتى.

وهو ما دعا مارك توين لأن يحذرنا من مغبة الانجرار وراء القطيع، إذ يقول: "كلما وجدت نفسك منجرفاً في طريق الأغلبية دون تفكير، فعليك أن تتوقف دون تردد وتغير اتجاهك في التو واللحظة".

يُعرِّف البعض عقلية القطيع أو سلوك القطيع (Herd behavior) بأنه:" الميل السلوكي عند الأفراد لاتباع رأي الجماعة التي ينتمون إليها دون تفكير، فسلوك القطيع هو اتباع الفرد سلوك الجماعة التي ينتمي إليها دون التفكير فى منطقية هذا السلوك، فهو تنازل الفرد طواعية عن عقله المستقل الواعى ليتبع غيره باعتبار أن هذا الآخر هو أكثر فهما ودراية منه"، ويطلقون على قائد القطيع المحرك الكُلي، وخير مثال على ذلك حركة أسراب الطيور المهاجرة، أو حركة مجموعات الأسماك عبر البحار، وكذلك قطعان الحيوانات في الغابات.

وهي في منهجها وآلية عملها تتبع واحدة من المغالطات المنطقية، وهي مغالطة التوسل بالأكثرية أو مغالطة عربة الفرقة، وتقوم على افتراض صحة ما يقوم به أو يفعله أو يؤمن به أكثر الناس فما دامت الأكثرية تفعل ذلك فهو بالضرورة صحيح وذلك حسب هذا المنطق المغلوط، فهي تعتبر موقف الناس بديلا عن الدليل المنطقي، فمعظم الناس يميلون إلى الأخذ بالسائد والمنتشر كونه الأسهل لهم والأقل خطورة، ولكنه فعل ينطلي على خطأ منطقي كبير، فهل يمكن للمرء أن يدعي أن التدخين مفيد للإنسان، لمجرد أن أعداد ضخمة من البشر يفعلون ذلك؟

إن أول من أطلق هذا المسمى (سلوك القطيع) هو عالم الأحياء هاملتون، إذ أكد أن :" كل عضو في مجموعة ما يخدم نفسه بالدرجة الأولى حيث يقلل الخطر عن نفسه بالدخول مع الجماعة والسلوك بسلوكهم هكذا يظهر القطيع بمظهر الوحدة الواحدة، حيث يتبع الفرد الأضعف أو الأقل نفوذاً من هم أقوى منه وأشد نفوذاً"، فالسيف المُسلط على رقاب الجميع أن من يخالف الجماعة سيعرّض نفسه إلى الهلاك، ومن ناحية أخري فالقطيع دائماً وأبداً ما يكون لديه خوف من قطيع آخر مُعادٍ له.

إذن، وفي التحليل الأخير، فإن الإعلام بصيغته الحالية يقود إلى ترسيخ سلوك القطيع في الوعي الجمعي، لذا لا تسر أبداً خلف القطيع ولا تتَّبع سلوكه، فهي حقاً واحدة من أهم آليات تزييف الوعي رواجاً وذيوعاً في وسائل الإعلام، إذ داخل القطيع يغيب العقل تماماً وتحكم العاطفة.



tgoop.com/menoathgafi/2619
Create:
Last Update:

📝 الإعلام وسلوك القطيع: فن قيادة الخِراف إلى المذبح

د.محمد عمارة تقي الدين

"إن معرفة فن التأثير على مُخيلة الجماهير تعني معرفة فن التحكم بها"، هكذا يصف المفكر الفرنسي جوستاف لوبون في مؤلفه الرائع (سيكولوجية الجماهير) فن إدارة القطيع عبر التوجه بالحديث إلى عاطفتها وقلبها دون عقلها، وهو الأمر الذي تعاظم تأثيره في أيامنا هذه في ظل الانتشار الواسع والتطور الهائل في وسائل الإعلام.

إذ تكمن خطورة تلك الوسائل الإعلامية في مقدرتها على حشد جموع كبيرة من الجماهير وراء فكرة ما وتأييدها بشكل مطلق مهما كانت سلبيتها، ومن ثم دفعهم للتصرف من دون تفكير لإنفاذ هذه الفكرة في عالم الواقع بغض النظر عن العواقب من ورائها، وكأن ما تقوم به هذه الوسائل الإعلامية هو من قبيل عمليات التنويم المغناطيسي، ولكن خطورتها أنها لا تتم بشكل فردي وإنما في شكل تنويم جماعي.

ومن ثم يتشكل العقل الجمعي بمفهومه السلبي الذي يتسم بالانصياع الأعمى والانقياد اللإرادي والانسياق اللاواعي خلف الأيديولوجيات المختلفة بتجلياتها الدينية أو الطائفية أو القومية، فهي إذن عملية تغييب تامة للوعي الإنساني، وتعد جماعات العنف مثالاً صارخاً على هذا السلوك، إذ يخلع الفرد المنتمي لها عقله على عتبات الجماعة لتتلبسه حالة متفاقمة من الخضوع والإذعان التام.

وفي هذا الشأن يشرح إميل دوركايم في نظريته "قهر العقل الجمعي" كيف يقهر هذا العقل الجمعي الإنسان ويُخضعه له بشكل مطلق فيصبح واحدًا من القطيع، فهي إذن قوة آمرة أو سلطة قاهرة، تجبر الفرد على الانصياع التام لها والتقليد الأعمى لسلوكها، أو ما يُسمى بالجبرية الاجتماعية وفقاً لدوركايم.
وعليه تنشأ مجموعة من الخصائص التي تُميز الجماهير التي تسير في شكل القطيع وهي: القابلية للتحريض المتسرع والعنيف ضد العدو الذي اختلقه لهم قائد القطيع، السذاجة وسرعة تصديق ما يطرحه قائد القطيع من فكر دون تمريره على العقل، اللجوء للعنف وتبني الحلول الجذرية، المبالغة في العواطف والدفع بها إلى حدها الأقصى ومن ثم خفوت التفكير العقلاني وصولاً لدرجة الانطفاء التام.

وفي مجتمع القطيع، وكما يذهب البعض، يفقد الفرد فرديته بشكل مطلق ويذوب في المجموع ويتماهى معه بشكل تام فيبدو شخصاً آخر ذو سمات شخصية وسلوكية متناقضة تماماً مع سماته الحقيقية، فهو في الواقع وبعيداً عن القطيع نجده يفكر بعقلانية ومنضبط المشاعر والسلوك، أما في الحشد وداخل القطيع فهو ينزع نحو الانفعالية والتطرف في السلوك والمشاعر لأقصى درجة متخيلة، فها هو عقله وقد أقاله تماماً، بل قتله بدم بارد وذهب به إلى ثلاجة حفظ الموتى.

وهو ما دعا مارك توين لأن يحذرنا من مغبة الانجرار وراء القطيع، إذ يقول: "كلما وجدت نفسك منجرفاً في طريق الأغلبية دون تفكير، فعليك أن تتوقف دون تردد وتغير اتجاهك في التو واللحظة".

يُعرِّف البعض عقلية القطيع أو سلوك القطيع (Herd behavior) بأنه:" الميل السلوكي عند الأفراد لاتباع رأي الجماعة التي ينتمون إليها دون تفكير، فسلوك القطيع هو اتباع الفرد سلوك الجماعة التي ينتمي إليها دون التفكير فى منطقية هذا السلوك، فهو تنازل الفرد طواعية عن عقله المستقل الواعى ليتبع غيره باعتبار أن هذا الآخر هو أكثر فهما ودراية منه"، ويطلقون على قائد القطيع المحرك الكُلي، وخير مثال على ذلك حركة أسراب الطيور المهاجرة، أو حركة مجموعات الأسماك عبر البحار، وكذلك قطعان الحيوانات في الغابات.

وهي في منهجها وآلية عملها تتبع واحدة من المغالطات المنطقية، وهي مغالطة التوسل بالأكثرية أو مغالطة عربة الفرقة، وتقوم على افتراض صحة ما يقوم به أو يفعله أو يؤمن به أكثر الناس فما دامت الأكثرية تفعل ذلك فهو بالضرورة صحيح وذلك حسب هذا المنطق المغلوط، فهي تعتبر موقف الناس بديلا عن الدليل المنطقي، فمعظم الناس يميلون إلى الأخذ بالسائد والمنتشر كونه الأسهل لهم والأقل خطورة، ولكنه فعل ينطلي على خطأ منطقي كبير، فهل يمكن للمرء أن يدعي أن التدخين مفيد للإنسان، لمجرد أن أعداد ضخمة من البشر يفعلون ذلك؟

إن أول من أطلق هذا المسمى (سلوك القطيع) هو عالم الأحياء هاملتون، إذ أكد أن :" كل عضو في مجموعة ما يخدم نفسه بالدرجة الأولى حيث يقلل الخطر عن نفسه بالدخول مع الجماعة والسلوك بسلوكهم هكذا يظهر القطيع بمظهر الوحدة الواحدة، حيث يتبع الفرد الأضعف أو الأقل نفوذاً من هم أقوى منه وأشد نفوذاً"، فالسيف المُسلط على رقاب الجميع أن من يخالف الجماعة سيعرّض نفسه إلى الهلاك، ومن ناحية أخري فالقطيع دائماً وأبداً ما يكون لديه خوف من قطيع آخر مُعادٍ له.

إذن، وفي التحليل الأخير، فإن الإعلام بصيغته الحالية يقود إلى ترسيخ سلوك القطيع في الوعي الجمعي، لذا لا تسر أبداً خلف القطيع ولا تتَّبع سلوكه، فهي حقاً واحدة من أهم آليات تزييف الوعي رواجاً وذيوعاً في وسائل الإعلام، إذ داخل القطيع يغيب العقل تماماً وتحكم العاطفة.

BY مقالات مختارة


Share with your friend now:
tgoop.com/menoathgafi/2619

View MORE
Open in Telegram


Telegram News

Date: |

Image: Telegram. In handing down the sentence yesterday, deputy judge Peter Hui Shiu-keung of the district court said that even if Ng did not post the messages, he cannot shirk responsibility as the owner and administrator of such a big group for allowing these messages that incite illegal behaviors to exist. In the “Bear Market Screaming Therapy Group” on Telegram, members are only allowed to post voice notes of themselves screaming. Anything else will result in an instant ban from the group, which currently has about 75 members. The main design elements of your Telegram channel include a name, bio (brief description), and avatar. Your bio should be: Activate up to 20 bots
from us


Telegram مقالات مختارة
FROM American